قصة جماعات الدراويش في مجلس العزاء
كان من الظواهر الملفتة في بغداد إبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات انتشار جماعات من الدراويش ينتسبون إلى طرق صوفية مختلفة، على رأسها الرفاعية والقادرية والنقشبندية، يجوبون مجالسَ العزاء بالأُجرة،
ويقومون باستعراض القوى الخارقة التي يزعمون أنها كراماتٌ للشيخ الذي ينتسبون إليه، ومن أبرز أعمالهم الضربُ بالدرباشة (سيخ من حديد)، وأكل الزجاج، ونفخ النار، ومَسك الأسلاك المكهرَبة، وغير ذلك من أمور عادةً ما يفعلها السحرةُ من جميع المِلل والنِحَل.
ومع كثرة مجالس العزاء بسبب قتلى الحرب، ازدادت تلك الفِرق، وراجَ سوقُها، وتنوَّعت أساليبُ أدائها، وارتفعت أجورُها بشكل فاحش، حتى بلغت أجرةُ إحياء أُمسيةٍ من بعض الفرق المشهورة ما يوازي أجرة فرق الحفلات الغنائية أو تزيد.
كانت مجالسُ العزاء تُقام في سُرادقات كبيرةٍ خاصَّة، أو في أقرب أرضٍ خاليةٍ من منزل أهل الميت.
يحتشدُ الناس قيامًا وقعودا، والنساء ينظرنَ من فوق أسطح المنازل، ويرقُبنَ كلَّ ما هو جديد ومثير من البهلوانيات، الأمرُ الذي يزيدُ الحماسةَ عند أعضاء الفريق، وقد عَرَّوا النصف الأعلى من أجسادهم من اللباس، لتستقبلَ الطعنَ، وتظهرَ (الكرامةُ) بلا التباس.
ذاتَ عزاءٍ لأحدِ أصحابي ماتَ والدُه، حضَرتُ فيمن حضر، وقد احتشدَ جماهيرُ المعزِّين، وأخذَ الدراويشُ مواضعَهم في مجلسٍ خُصِّصَ لهم، تظهَرُ في عُدَّةُ الشُغل من دفوفٍ مسنَدَةٍ إلى الرفوف، وأسياخٍ فاقت عددَ الأشياخ،
ولمعت الحِرابُ في جانب المِحراب، وشيخُهُم قائم في وسطهم يُمسك بمكبر الصوت ليُعطي إشارةَ البدء بالفعاليات، والتي عادةً ما تبدأ بإحماءٍ متصاعِد، يكون أولَّه نشيدٌ ومديحٌ بلسانٍ مفهوم، ثم لا يلبثُ أن يتحوَّلَ إلى صخَبٍ وضجيجٍ وعُجمَةٍ في بعض الكلمات، وتسارُعٍ في وتيرة الإيقاع، يُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ذلك الصخبَ المصاحبَ لاحتفالات عيد الهولوين، وما تفعله قبائلُ الزنوج الوثنية وعبدةُ الشيطان، حتى ترى أجسادَهم تنتفِضُ بشكلٍ مريب وحركات تبدو لا إراديَّة.
قام شيخُ الطريقة (قائد الفرقة) وصارَ يتمشى في ساحة العرض التي تتوسَّط تلك الحشود، وهو يتمايلُ يمنةً ويسرَةً، ويُحرِّكُ رأسَه الضخمَ في كلِّ اتجاه، فيتطايرُ معهُ شعرُهُ الأشيبُ الذي فرَقَه من الوسط، وجعل في كلِّ جانبٍ ظفيرَةً تبلغ ما دون الكتِف، وكان يفحجُ في مِشيته لكي يأخُذَ بطنُه الكبيرُ مساحةً كافيةً في الاهتزاز مع الحركة.
تذكَّرتُ أخانا طلعَت وما وقع له من قبلُ مع شيخ طريقة آخر!!
بدأتُ بقراءة القرآن بحركةِ الشفاه دون أن ألفِتَ انتباه أحد من الإنس، آية الكرسي والمعوذتان تكفي لإبطال سحرهم وتمنعُ تنزُّلَ الشياطين عليهم، (قلتُ في نفسي).
بقيتُ أكرر هذه الآيات فحسب.
الجمهور بدأ يتململ بسبب تأخر العرض، فقد انتهى الإحماء، ونزع الشبابُ قمُصَهم، وعرَّوا بطونهم، وسلَّوا الأسياخَ من أغمادها، وصاروا يتعرَّضون للشيخ لكي يباشر غرزَها في جنَباتهم كما يفعلون دائما، لكنَّ الشيخ لم يفعل هذه المرَّة، وبدا عليه التوتُّر والانفعال، كان يمشي بخطوات سريعة ذهابًا وإيابًا، وينفخ تضجُّرًا، ويرفع رأسه ينظُر إلى السماء وكأنه ينتظرُ شيئًا ما، وتارةً ينظُر في وجوه الجمهور حتى مضت حوالي نصف الساعة ولم يبدأ العرضُ بعد.
بعض المُعزِّين غادروا المكان ولم ينتظروا، وبدأ أهلُ الميت يشعرون بالحرَج، فالأجرُ الذي دفعوه كان شاملًا للعروض البهلوانية!!
وشيخُ الطريقة كان يشعُرُ بحرَجٍ أكبرَ لأنه حتى الآن لم ينجَح في استدعاء الأعوان من (الفضائيين)، وهذا يضرُّ بسمعته وثقة الناس بكراماته، ومن ثمَّ بمصدر رزقه!!
الجمهور لم يكن يعرِف السبب، لكنَّ الشيخَ باتَ يعرفُ السبب يقينًا، فقد كان في أول الأمر يسيرُ ونظرُه مشتتًا في وجوه الناس، لكنه بدأ يقتربُ من المصدر شيئًا فشيئًا ويُركِّزُ النظر في عين ذلك الشاب اليافع الذي كان جالسًا في الصفِّ الأول ويقرأُ القرآن في سرِّه، كلما مرَّ من أمامه نظرَ إليه نظرَ المُغضَب، ولسانُ حاله: هلا غادرتَ المكانَ أو سكتَّّ!!
لم يقُم الشابُّ ولم يسكُت.
فما كان من الشيخ إلا أن قام بحركةٍ متهوِّرَةٍ غير متوقَّعةٍ بعدَ أن نفدَ صبرُه.
فماذا فعل يا تُرى؟!
لتكملة القصة اضغط على الرقم 2 في السطر التالي 👇